مذكرات رأفت الهجان بخط يده: «طلبت إعفائي من المهمة» (ح 13)
في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».
«بالعربي» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، الصادر عن «دار الأهرام للترجمة والنشر»، عام 1994، وذلك بمناسبة ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.
مر عامين على العدوان الثلاثي، الذي أبلغ رفعت الجمال السلطات المصرية بخطته إلا أنهم لم يصدقوه، ليروي الجاسوس المصري ما حدث في حياته بعد ذلك في مذكراته: «في مايو 1958 وقع الاختيار على مكتبي السياحي لإقامة جسر للنقل الجوي من بيروت إلى إسرائيل. كانت إسرائيل قد قررت إخراج اليهود اللبنانيين من لبنان، ومن ثم عمدت إلى الاتفاق معي لتنظيم رحلات جوية من بيروت إلى إسرائيل. وقررت أنا وشريكي تنظيم العملية بالاتفاق مع شركتي طيران (لوفوتهانزا) الألمانية، وشركة طيران أوليمبيك اليونانية. وواتتني الفرصة مرة أخرى لمغادرة البلاد رسميًا.
ذهبت ثانية إلى روما لمناقشة مسائل العمل مع الوكالة اليهودية فيما يختص بعمليات النقل من لبنان. وذهبت كما هي العادة من هناك إلى ميلانو، ونظرًا لأنه لم تعد هناك أحداث كثيرة في إسرائيل، فقد قررت أن أبحث إمكانية ترك هذه المهمة المنوطة بي والعودة إلى مصر.
وفي ميلانو لم تمض الأمور في لقائي على النحو الذي خططت له، إذ بعد أن أبلغت رئيسي عن رغبتي في ترك عملي قال لي كلامًا ساءني. قال لي إنني عملت بنجاح في إسرائيل على مدى ثلاث سنوات، وأنني خلال هذه الفترة أقمت علاقات قيمة جدًا بالنسبة لهم، وإذا ما أرسلوا بديلًا فلن يكون مثلي، إذ لن يستطيع أن يصل إلى الوضع الذي بلغته، لأنه سيحتاج إلى وقت أطول لكي يقيم علاقات مثل علاقاتي، واتصالاتي بالمستويات العليا تحول دون تحقيق رغبتي في ترك عملي، ذلك أنني أصبحت معروفًا جدًا، ومن ثم، فإنني إذا رحلت فسوف تكتشف الموساد أمري إن آجلًا أو عاجلًا.
أصحبت وحدي في الشقة، تخلصت من مستلزمات التنكر، واستحممت ثم ذهبت لأنام، كنت متعبًا بحيث لم أستطع عمل أي شيء، وذهبت في اليوم التالي لرؤية نزيهة وأبنائها. كم كان جميلًا أن أراهم ثانية، لقد كبر الأطفال، أما نزيهة فكانت لا تزال كما هي، هذا فضلًا عن أن زوجها كان سعيدًا لرؤيتي، فقد أصبحت إنسانًا ناجحًا الآن، وعلى الرغم من أنه لا يعرف حقيقة عملي بالضبط، إلا أنه أدرك أنه عمل هام من أجل الحكومة.
قضينا معًا ليلة رائعة ثم تركتهم آسفًا. وتجولت بقية اليوم في أنحاء القاهرة. جميل أن أسير دون أن أنظر خلفي طوال الوقت حذر المراقبة. مضى النهار والمساء سراعًا وحضر في صباح اليوم التالي الضابط المختص واصطحبني إلى المطار بعد أن أجريت لوازم التنكر. وصلت إلى إسرائيل ثانية باسم جاك بيتون عن طريق باريس وروما. كان من المفروض رسميًا أنني كنت في نيس ومونت كارلو وجنوه، وكنت قبل سفري إلى مصر قد كتبت عدة بطاقات تم إرسالها من هذه المدن لتأكيد عملية التخفي بصورة ملائمة لا تثير الشكوك.
ركزت اهتمامي على صفقة الجسر الجوي الخاص بلبنان وسارت الأمور سيرًا حسنًا. حققنا مكاسب كبيرة ومضت العملية في سلاسة ويسر. مرت الأيام حتى أصبحنا في صيف 1959 وليس لي عمل سوى إرسال الرسائل الروتينية لإعلامهم بما يجري، ثم التقيت بإيلي كوهين حيث أخبرني بأنه ترك عمله في المخابرات لأن العمل المكتبي لا يرضيه، وأنه خطط للزواج، ومن ثم أعددت له ولزوجته رحلة إلى إيلات هدية مني بمناسبة الزواج. وركزنا كثيرًا إذ تمكنت بفضله من أن أبقى وسط ساحة النشاط، وأحصل بانتظام على معلومات عن مجريات الأحداث. وكثفت اتصالاتي بكل من (ديان) و(وايزمان) و(شواب).
ونظرًا لصلة (ديان) الوثيقة بـ(بن جوريون)، فقد استطعت أن أكسب ثقة (بن جوريون) أيضًا، وأصبحت عضوًا في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم، أما جولدا مائير فكانت تتميز بأنها امرأة عطوف، وأبدت ودًا شديدًا نحوي، وكثيرًا ما تساءلت بيني وبين نفسي ماذا عساهم أن يقولوا عني لو اكتشفوا حقيقتي وعرفوا أني استخدمتهم».
لمراجعة الحلقات السابقة:
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق